لماذا اهتزت أوروبا لحادث شارلي إبدو؟
نشرت: السبت 17 يناير 2015 روس دوذات/ نيويورك تايمز
ترجمة/ شيماء نعمان
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] لم يكن حادث الهجوم على مجلة "شارلي إبدو" الفرنسية ليمر دون التوقف عند تاثير الضربة التي استهدفتها ليس فقط على فرنسا بل على كافة الدول الأوروبية؛ لا سيما وأن فرنسا تمثل كلمة السر المفصلية لأوروبا بأسرها.
وحول ارتباط القارة الاوروبية بمصير مستقبل فرنسا، كتب الصحافي "روس دوذات" مقالاً نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية تحت عنوان "فرنسا .. بوتقة أوروبا" جاء فيه:
إن فرنسا التي منيت بهجوم إرهابي آثم الأسبوع الماضي هي نفسها فرنسا التي عانت على مدى عقود وقرون من الزمان من مخاوف انهيارها.
ولسبب وجيه: فمنذ القرن الثامن عشر- عندما تزعمت أوروبا وبدت على وشك الهيمنة على العالم- شهدت فرنسا تقلصًا نسبيًا في قوتها، كما عانت من هزائم وإهانات على أيدي قوى منافسة أخرى بدء من البحرية البريطانية إلى النازية الألمانية إلى قوة الغزو الثقافي الأمريكي.
وقد أبرزت هذه المخاوف القديمة الهجوم المميت على مجلة "شارلي إبدو" الساخرة، وهو هجوم ذي صلة بجميع الهواجس المختلفة التي تعتري فرنسا المعاصرة: من مخاوف حول زحف تيار الاسلمة وتصاعد العداء للسامية، ومخاوف من تنامي قوة اليمين المتطرف وردود فعل عدائية ضد المسلمين؛ وجميعها يترابط بصورة أكبر كنوع من الخيانة من قبل نخبة القارة الأوروبية؛ وذلك وسط حالة من الركود الاقتصادي .
وعلى الرغم من تلك المخاوف، فإن فرنسا من الناحية الفعلية ليست عديمة الأهمية أو منهكة القوى؛ بل يمكن القول بأنها أصبحت أكثر أهمية وأكثر مركزية بالنسبة لمصير أوروبا والغرب بأسره.
[rtl] لا، حقبة "ملك الشمس"- "لويس الرابع عشر"- ليست على وشك العودة. بيد أنه على المستوى السياسي والثقافي وحتى على المستوى الفكري، فإن الأحداث التي ستشهدها فرنسا على مدى نصف القرن المقبل يمكن أن تؤثر أكثر من اي وقت مضى منذ ما قبل الحربين العالميتين. ومن ثم فإنه في فرنسا فقط أكثر من ألمانيا أو اليونان أو بريطانيا أو أي لاعب دولي آخر يمكن أن يتقرر في نهاية المطاف مصير أوروبا القرن الحادي والعشرين.[/rtl]
[rtl]وبالنظر إلى القضية الأساسية في قلب كابوس "شارلي إبدو": فإن السؤال هو ما إذا كان في استطاعة الدول الأوروبية دمج المهاجرين المسلمين بنجاح في المجتمع، وكذلك ماذا سيحدث إذا لم يفعلوا؟[/rtl]
هنا تبدو فرنسا كحالة اختبار مفصلية. فهي تضم أكبر عدد من السكان المسلمين أكثر من أي دولة أوروبية كبيرة أخرى، كما أن قطاعات من هؤلاء السكان أكثر استيعابًا بينما بعضهم أكثر راديكالية عن أي مكان آخر في القارة الأوروبية. (ففي استطلاع للرأي الصيف الماضي، أعرب 16 بالمائة من المواطنين الفرنسيين عن تأييدهم لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)".
وليس من المستغرب أن الرد على الإسلام منقسم كذلك على حد سواء: فالمسلمون ينظر إليهم بعين أكثر إيجابية في فرنسا عن أي مكان آخر في أوروبا الغربية، كما أن السياسة الفرنسية قد أظهرت حزبًا يمينيًا متطرفًا متصاعد القوة، هو حزب "الجبهة الوطنية" الذي تتزعمه "مارين لوبان"؛ والذي من المرجح حاليًا أن يتصاعد نفوذه الانتخابي.
في الوقت نفسه، تحظي السياسة الخارجية لفرنسا بتشابكات (غالبًا عسكرية) متميزة في أنحاء الشمال الأفريقي وبلاد الشام، وهو ما يعني أن صدى السياسة الداخلية في فرنسا لديه حيز أكبر للانتشار ومن ثم العودة.
ولذلك لو أن هناك طريق إلى استيعاب واندماج أكبر للمسلمين، فإن الاحتمال الأكبر أن تكون الريادة في فرنسا. ولو كان "التطرف الإسلامي" هو من سيحرز المكاسب أو يتحول إلى شيء أكثر انتشارًا وخطورة، فإن الاحتمال الأكبر أن يحدث ذلك أيضًا في نطاق تأثير فرنسا أكثر من أي مكان آخر. وإذا كان اليمين المتطرف الذي تخشاه أوروبا كثيرًا سيواصل مسيرته من التهميش نحو التيار السائد، فإنه من المحتمل أيضًا أن يحدث أولاً في باريس.
وبالمثل فالسياسة الفرنسية مركزية بالنسبة لمصير مشروع توسيع الاتحاد الأوروبي ؛ والذي يمر بأزمة في الوقت الراهن بسبب الهوة بين مصالح ألمانيا ومصالح الدول ذات الاقتصاد الهامشي في الاتحاد الأوروبي وهي اليونان وإيطاليا وإسبانيا. لكن تلك الهوة (وعبء تاريخ القرن العشرين) تعني أن الألمان- على الرغم من هيمنتهم اقتصاديًا- ليس في مقدورهم الحفاظ على ترابط الاتحاد متماسكًا بأنفسهم فقط. لكن فرنسا، ولأسباب تاريخية وثقافية وجغرافية، هي من يقع على عاتقها راب الانقسام بين شمال وجنوب أوروبا وجعل الاتحاد الأوروبي يعمل سياسيًا. بالطبع، ما لم تختر فرنسا تدريجيًا وكارثيًا ألا تفعل؛ وفي هذه الحالة سينهار المشروع بأكمله أو تتم إعادة النظر فيه بصورة كلية.
وفي كلا الحالتين، قد يرتفع نجم فرنسا فيما يهبط نجم ألمانيا. أما عن الديموغرافيا- والتي كانت مصدرًا للكثير من القلق الفرنسي في الماضي- تحولت على نحو مفاجيء لصالح فرنسا: فالألمان أغنياء ولكن يتقدم بهم العمر، بينما حتى في خضم التراجع الاقتصادي ارتفع معدل المواليد في فرنسا بوضوح (ما يشير إلى تفاؤل ما وسط حالة من الضجر). وبحلول عام 2050، وتحت بعض السيناريوهات، يمكن لفرنسا أن تتمتع من جديد بأكبر اقتصاد وعدد سكان؛ الأمر الذي سيجعل منها إما صاحبة الهيمنة في قارة أوروبية أكثر تكاملاً أو تصبح القوة الأكثر أهمية في قارة أكثر انقسامًا مما هي عليه اليوم.
ومن ثم، فوسط هذه الأنماط السياسية والاقتصادية فإن هناك احتمالية فكرية هامة؛ وهي أنه إذا ما كان هناك شيء وراء سبات الغرب التاريخي الحالي، أو بعض الصراع الأيديولوجي الجديد أو التوافق، فإنه قد ينبثق أولاً في المكان الذي شهد مولد العديد من الثورات.
[rtl]وطالما كانت فرنسا مسرحًا للتناقضات: بين استبدادي وجمهوري، وبين كاثوليكي ومقاوم للإكليروس، وبين شيوعي وفاشي. أما الآن فهي تعود من جديد مكانًا تتصادم فيه القوى القوية وتشير فيه التساؤلات الثقافية- بشأن الإسلام والعلمانية والقومية وأوروبا والحداثة نفسها- إلى أن الجديد والمزيد منها قد يتولد قريبًا.[/rtl]
[rtl]لقد كان الهبوط حقيقيًا، لكن المستقبل ما زال لم يكتب بعد. وإذا كان هناك تاريخ حقيقي يتعين أن يصنع في أوروبا- خيرًا كان أو شرًا- فإنه قد يصنع في فرنسا أولاً.[/rtl]