لا تخلطوا بين داعش والإسلام ، ولا بين الإسلام والسياسة وتخدموا أعداء الإسلام
من قلم : د. عبد الحميد سلوم
من قلم : د. عبد الحميد سلوم
بين عامي 1991- 1993 كانت الأعمال التحضيرية للمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي انعقد في صيف 1993 في فيينا .. وقد أخفقتْ وفود العالم في جنيف بالتوصل إلى إجماع آراء حول مسودة الإعلان الختامي للمؤتمر لأسباب عديدة من بينها بعض العبارات التي سعتْ الوفود الغربية لإقحامها في الإعلان الختامي ولا تتناسب مع قيم الإسلام ، فانتقلتْ أعمال المؤتمر إلى نيويورك وتمَّ التوافُق !! كنتُ عضوا في وفد بلادي في جنيف ومُتابِع ومُنخرِط بكل الأعمال التحضيرية ، ولاحظتُ كم هناك صورة مُشوّهة وسلبية بأذهان الغرب عن الإسلام ( ولستُ الآن بصدد تفنيد من هو المسئول عن ذلك ،الغرب أم الشرق أم كلاهما) ، لدرجة أن إحدى المنظمات غير الحكومية ولها صفة استشارية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، المعروف اختصارا ( بالايكوسوك) ، وزعت بيانا اعتبرت فيه الإسلام كله خرقا لحقوق الإنسان !! وللأسف الشديد لم يتحمّس وفدا واحدا، لا عربي ولا مسلم لتفنيد تلك البيان والرد عليه سوى الوفد الإيراني ، حيث كان سفير إيران يجول بقلب القاعة على الوفود العربية والإسلامية ، يتشاور معهم ، ولكن لا أعتقد أنه وجد الحماس الكافي للدفاع عن الإسلام وقيم الإسلام وتصحيح الصورة المُشوَّهة في العقل الغربي عن الإسلام !! فقام وفد إيران بمفرده بتوزيع وثيقة يدحض فيها كل مزاعم تلك المنظمة غير الحكومية ، ويتحدث فيها بشكل مُفصّل عن حقوق الإنسان في الإسلام !!.
الغرب لا يرى الإسلام إلا من المنظور الذي تطبّقه داعش اليوم والتنظيمات الإرهابية الأخرى التي ترفع شعار ( أن تطبيق الإسلام لا يكون بالدعوات وإنما بالأشلاء )، فضلا عن بعض الملحدين ، وبعض التكفيريين عبر التاريخ ، الذين قلّدوا سلوك الخوارج وهم أول من اخترع (سياسة التكفير ) !! هؤلاء رسّخوا، ويرسخون لدى الغرب فكرة أن الإسلام لم يقم بالحوار والإقناع والإرادة والرضا والإيمان ، وإنما بالسيف والقتل وقطع الرؤوس ، ومن هنا فإنهم بالغرب لا يعتبرونه دينا سماويا ولا يعترفون به ، بل لا يخفى علينا الرسوم الساخرة والأفلام المسيئة للإسلام !! والجميع يخلط بين قيم الإسلام ومعانيه الصحيحة وبين التشويه لهذه القيم والمعاني عبر التاريخ لأسباب سلطوية وسياسية ودنيوية ، كان الإسلام بريئ منها ، وأُلْصِقَت به ظلما وافتراء لتبرير ممارسات هذا الحاكم أو ذاك ، وكان لا بدّ من اختراع أحاديث عن الرسول(صلى الله عليه وسلم) لتعزيز فكرة هذا الحاكم وذاك وموقفه من خصومه .. وكانت أحاديث تخالف جوهريا نصوص القرآن الكريم وآياته ، وحاشى للرسول (ص) أن يأتي بحديث يخالف نصوص القرآن الكريم ومعانيها !! وكل حديث لا ينسجم مع روح القرآن ، أو يتناقض مع آياته لا يمكن أن يكون صحيح مهما كان رواتِه وناقليه والإجماع عليهم . فالرسول (ص) لا يمكن أن يناقض القرآن .. ونقطة على السطر .. ومن يُورِد حديثا يخالف القرآن هو من يجبُ الحكم عليه بالمفتري، أي كان، وليس العكس ..فيوجد رسول واحد اسمه (محمد)ص، وليس اثنين كي ينزل القرآن على أحدهما ، بينما الآخر يطلق أحاديث مُغايرة !! .
إن ما تقوم به داعش اليوم هو كل ما يعزِّز نظرة الغرب ورؤيته للإسلام من أنه كله خرق لحقوق الإنسان ، كما قالت تلك المنظمة غير الحكومية المُشارُ إليها أعلاه ... بل أكثر من ذلك ، دين اجرام وقتل وتوحش ، وهذه هي الصورة التي ينتظرها الغرب ليعزز موقفه من الإسلام وكراهية الإسلام !! وللأسف هناك بعض الغوغاء والجهلة من بين المسلمين من يساعد داعش بتعزيز تلك الصورة ويشهد لها بأنها تطبِّق(الإسلام الصحيح) وحاشى الإسلام الصحيح من داعش وأمثال داعش ومريدي داعش ..
فالإسلام ليس داعش ، وداعش ليست من الإسلام بشيء ، وإنما هي من فكر الخوارج ... والصراعات السياسية داخل الإسلام عبر التاريخ وما نجم عنها من قتل ودماء ، لا يجوز أن نُرجِعها للإسلام وإنما للسياسة والزعامة !! . بل لو احتكم الجميع للإسلام ومعاني الإسلام بشكل أمين وصادق لما كان حصل ما حصل .
أوروبا عانت من تشويه قيم السيد المسيح بالمحبة والتسامح ، وهيمنت الكنيسة حوالي خمسة عشر قرنا على شعوب الغرب بالخرافات والأضاليل البعيدة عن قيم المسيحية وجوهرها ( لا سيما صكوك الغفران، وبيع أماكن بالجنة، والامتيازات التي أعطاها رجال الكهنوت لأنفسهم باسم الدين ) .. وحصلت حروب دينية طاحنة منها (حروب الثلاثين عاما في الامبراطورية الرومانية)، (وحرب الثمانين عاما بين اسبانيا واتحاد الجمهوريات السبع الواطئة)..ولكن كل هذا تم وضع حد له في صلح ويستفاليا حينما جلسوا مع بعض عام 1648 ووضعوا حدودا بين الدولة وقوانينها وأسسها وقواعدها ومعاييرها ،يتساوى الجميع أمامها بلا تمييز ، وبين الدين كخصوصية شخصية وعلاقة ربانية بين العبد وخالقه ، يمارسها بحرية فردية كاملة ، وأصبحت المُوَاطَنة والمساواة لديهم هي الهوية الجامعة.. فحينها فقط اهتدت أوروبا على طريق الدرب الصحيح وبدأ التقدم والتطور والاكتشاف والاختراع وتكافؤ الفرص ، وغير ذلك .. وبدأت تتبلور لدى الغرب نظرة مستقلة وخاصة عن حقوق الإنسان والديمقراطية ، لا سيما بعد الثورة الإنكليزية عام 1688،واستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا عام 1776، والثورة الفرنسية عام 1789 !! وبقيت الكنيسة وبقيت المسيحية ،ولكن الكنيسة عَرِفت أين تبدأ حدود الدولة ،وأين تنتهي حدودها مع الدولة !! وأدركوا أنه لا يمكن قيام شيء اسمه (دولة دينية ) بسبب تعدد المذاهب والأديان وتشعبها ، فضلا عن تناقضات الأفكار والعقائد .. ولذا ليس من الغريب أن يكون أول المستفيدين من فكر داعش وسواها من التنظيمات المتطرفة هي (إسرائيل) لأن أولئك يخدمون استراتيجيتها بخلق دولة يهودية دينية خالصة ...
فمشكلتنا ليست بالإسلام ، وإنما في الفهم الخاطئ والمُشوّه للإسلام ، وبزج الإسلام بكل صراع وخلاف واختلاف ، بهدف كسب المنافسة أو المعركة أخيرا ... أليسَ هذا هو ما يحصل اليوم في عالمنا العربي وعالمنا الإسلامي ؟!.
هل هناك أجمل من الكلام الذي ورد في فحو صكوك حقوق الإنسان وموادها ( الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966 والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966 وإعلان طهران لحقوق الإنسان عام 1968، وإعلان فيينا لحقوق الإنسان عام 1993 ) ، اقرأوا ما ورد في تلك الصكوك ، هل هناك أجمل منه ؟ ولكن من هو الذي يطبِّقه بشكل صحيح داخل بلدانه ، أم في تعامله مع البلدان الأخرى ؟؟ لا أحد !! فهل نقول أن تلك الصكوك سخيفة وتافهة وغير صالحة وأنها هي المشكلة ، أم نقول أن التطبيق هو كذلك؟. وذات الأمر بالنسبة للإسلام ، فالتطبيق هو المشكلة !!.
[ltr]لم يكن الإسلام في أي وقت دين تعصب وتطرف وقتل وتدمير ، كما تفعل داعش وأمثالها ، فهذا تدليس على الإسلام وتشويه له وحرف عن كل معانيه السامية .. والأصح كانت السياسات في الإسلام وصراعاتها هي من أخذت طابع القتل والعنف وسفك الدماء .. فمن لم يقرأ قول الإمام الشافعي (رضي الله عنه) : (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) فأين هذا من التعصب؟. وأين هذا من عقل الدواعش ؟. ألمْ يقل الله في كتابه الحكيم قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ).. أين هذا من عقل الدواعش ؟. أليستْ هذه دعوة للحوار ؟. ألمْ يجري الحوار بين الله والملائكة وإبليس حين طلب منهم أن يسجدوا لآدم ؟. أين الدواعش من أدب الحوار هذا ؟. وحين استكبر إبليس واستخدم عنصريته في التمييز بين من خُلِق من نار ومن خُلِق من طين، لم يخسف الله به الأرض أو يضعه في الأغلال أو يقطع رأسه بالسكين، واكتفى بطرده من رحمته ومنحه حق المعارضة وكسْبِ الأتباع له (واليوم داعمي الشياطين كُثُر) ، وكان ذلك أول مُعَارضة بتاريخ الكون ، فأين داعش من كل تلك الثقافة ؟. الرسول عليه السلام قال : [/ltr]
[ltr](يا ايها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ،كلكم لآدم وآدم من تراب )، فأين الدواعش من هذا الكلام ؟. [/ltr]
بل أين الدواعش من كل الآيات القرآنية التالية : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم .... لكم دينكم ولي دينِ ...... ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .... أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ... لا إكراه في الدين ... لا تهدي من أحببت إن الله يهدي من يشاء ... من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا.. من كفر فعليه كفرُهُ ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمْهَدُون )... إلى عشرات الآيات القرآنية التي تدحض بالمطلق وترفض عقلية داعش وتفكيرها ...
فالمسألة ليست بالإسلام وإنما أولا : بالابتعاد عن جوهر الإسلام ومعانيه الصحيحة والسليمة التي تم تشويهها وحرفها لخدمة أغراض خاصة ومخططات هدّامه ، وهو ما تفعله داعش اليوم ..
وثانيا: بالخلط بين الإسلام والسياسة ، والخلط بين الدين والدولة ، لخدمة المصالح الخاصّة ومنها مصالح (رجال الطبقة الدينية والحكّام ،كما هو الحال اليوم في بعض البلدان) وكما كان الحال في أوروبا قبل ويستفاليا ، حينما كان التحالف قائما بين طبقة الأكليروس والأباطرة ..
فمن لا يُفرِّق بين ممارسات داعش والإسلام ، وبين تسخير الإسلام لأغراض السياسة ، خلافا لقيم الإسلام ، فهو أشبه بطفلٍ صغير لا يُفرِّق بين الجمرة والتمرة !! أو من لا يرى فرقا بين الشياطين والملائكة !!.. نعم أرغب أن أقرأ التاريخ ولكن أرفض أن أسكن به ، فبيتي هو الحاضر والمستقبل ..فإلى متى سيأسرنا التاريخ ؟!.